فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وقال لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا} أي نصيبًا واجبًا اقتطعته لنفسي من قولهم: فرض له في العطاء، وفرض الجند رزقهم.
والمعنى: لأستخلصنهم لغوايتي، ولأخصنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة.
قال ابن عطية: المفروض هنا معناه المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض، وهو الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجبًا أن اتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس.
قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا: ولفظ نصيب يتناول القليل فقط.
والنص إنّ أتباع إبليس هم الكثير بدليل: {لأحتنكن ذريته إلا قليلًا} {فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين} وهذا متعارض.
وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين.
وأيضًا فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد، نصيبهم عظيم عند الله تعالى.
والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم.
انتهى تلخيص ما أحب به.
والذي أقول: إنّ لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير، بدليل قوله: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {لعنه الله} صفة لشيطان، أي أبعده؛ وتحتمل الدعاء عليه، لكن المقام ينبو عن الاعتراض بالدعاء في مثل هذا السياق.
وعطف {وقال لأتخذن} عليه يزيد احتمال الدعاء بُعدًا.
وسياق هذه الآية كسياق أختها في قوله: {فاخرج إنّك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يُبعثون قال إنّك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 13 16] الآية فكلّها أخبار.
وهي تشير إلى ما كان في أول خلق البشر من تنافر الأحوال الشيطانية لأحوال البشر، ونشأة العداوة عن ذلك التنافر، وما كونّه الله من أسباب الذود عن مصالح البشر أن تنالها القُوى الشيطانية نوال إهلاك بحرمان الشياطين من رضا الله تعالى، ومن مداخلتهم في مواقع الصلاح، إلاّ بمقدار ما تنتهز تلك القوى من فرض مَيل القوى البشرية إلى القوى الشيطانية وانجذابها، فتلك خُلَس تعمل الشياطين فيها عملها، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {قال هذا صراط عليّ مستقيم إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين} [الحجر: 41، 32].
وتلك ألطاف من الله أوْدعها في نظام الحياة البشرية عند التكوين، فغلب بسببها الصلاح على جماعة البشر في كلّ عصر، وبقي معها من الشرُور حظّ يسير ينزع فيه الشيطان منازعه وَكَل الله أمرَ الذياد عنه إلى إرادة البشر، بعد تزويدهم بالنصح والإرشاد بواسطة الشرائع والحكمة.
فمعنى الحكاية عنه بقوله: {لأتّخذّن من عبادك نصيبًا مفروضًا} أنّ الله خلق في الشيطان علمًا ضروريًا أيقن بمقتضاه أنّ فيه المقدرة على فتنة البشر وتسخيرهم، وكانت في نظام البشر فرص تدخل في خلالها آثار فتنة الشيطان، فذلك هو النصيب المفروض، أي المجعول بفرض الله وتقديره في أصل الجبلّة.
وليس قوله: {من عبادك} إنكارًا من الشيطان لعبوديته لله، ولكنّها جلافة الخطاب النَّاشئة عن خباثة التفكير المتأصّلة في جبلّته، حتّى لا يستحضر الفكر من المعاني المدلولة إلاّ ما له فيه هوى، ولا يتفطّن إلى ما يحفّ بذلك من الغلظة، ولا إلى ما يفوته من الأدب والمعاني الجميلة، فكلّ حظّ كان للشيطان في تصرّفات البشر من أعمالهم المعنوية: كالعقائد والتفكيرات الشريرة، ومن أعمالهم المحسوسة: كالفساد في الأرض، والإعلان بخدمة الشيطان: كعبادة الأصنام، والتقريب لها، وإعطاء أموالهم لضلالهم، كلّ ذلك من النصيب المفروض. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لَّعَنَهُ الله} أصل اللعن الإبعاد، وقد تقدّم.
وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب؛ فلعنة الله على إبليس عليه لعنة الله على التعيين جائزة، وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل؛ فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في البقرة.
قوله تعالى: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي وقال الشيطان؛ والمعنى: لأستخلصنّهم بغوايتي وأضلنّهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة.
وفي الخبر «من كل ألفٍ واحد لله والباقي للشيطان».
قلت: وهذا صحيح معنى؛ يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة: «ابعث بعث النار» فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين». أخرجه مسلم.
وبعث النار هو نصيب الشيطان. والله أعلم.
وقيل: من النصيب طاعتهم إياه في أشياء، منها أنهم كانوا يضربون للمولود مسمارًا عند ولادته، ودوَرانهم به يوم أسبوعه، يقولون: ليعرفه العُمَّار. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا}: أوقعوا على الجماداتِ تسمياتٍ، وانخرطوا في سلك التوهم، وركنوا إلى مغاليط الحسبان، فَضَلُّوا عن الحقيقة.
{وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللهُ}، أي ما يدعون إلا إبليس الذي أبعده الحقُّ عن رحمته، وأسحقه بِبُعده، وما إبليس غلا مُقَلَّبٌ في القبضة على ما يريده المنشئ، ولو كان به ذرة من الإثبات لكان به شريكًا في الإلهية. كلاَّ، إنما يُجرِي الحقُّ سبحانه على الخلْقِ أحوالًا، ويخلق عقيب وساوسه للخلق ضلالًا، فهو الهادي والمُضِل، وهو سبحانه المُصَرِّفُ للكل، فيخلق (....) في قلوبهم عُقَيْبَ وساوسه إليهم طول الآمال، ويُحَسِّن في أعينهم قبيح الأعمال، ثم لا يجعل لأمانيِّهم تحقيقًا، ولا يعقب لما أمَّلُوه تصديقًا، فهو تعالى مُوجِد تلك الآثار جملةً، ويضيفها إلى الشيطان مرةً، وإلى الكافر مرة، وهذا معنى قوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}... الآية ومعنى قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ}. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا}
و«إن» هنا بمعنى ما، فـ «إن» مرة تكون شرطية، ومرة تكون نافية. مثل قوله في موقع آخر: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2]
أي إن الحق يقول: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ}. وكذلك «إنْ» في قوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا}، وكان العرب ينسبون إلى المرأة كل ما هو هيّن وضعيف ولذلك قال الحق: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]
فالإناث في عرف العرب لا تستطيع النصر أو الدفاع، ولذلك يقول الشاعر:
وما أدرى ولست أخال أدرى ** أقوم آل حصن أم نساء

والقوم هنا مقصود بهم الرجال لأنهم يقومون لمواجهة المشكلات فلماذا تدعون مع الله إناثًا؟. هل تفعلون ذلك لأنها ضعيفة، أو لأنكم تقولون: إن الملائكة بنات الله؟. وكانوا يعبدون الملائكة. وعندما تريدون القسمة لماذا تجعلون لله بنات؟. على الرغم من أنه سبحانه خلق البنين والبنات.
ولذلك قال الحق: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22]
أي قسمة جائرة لم يراع فيها العدل.
وعندما ننظر إلى الأصنام كلها نجد أن أسماءها أسماء مؤنثة: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19- 20]
وكذلك كان هناك صنم اسمه «إساف» و«نائلة»، فهل هذه الأصنام إناث؟ وكيف تدعون النساء والنساء لا ينصرن ولا ينفعن؟. وهل ما تعبدون من دون الله أصنام بأسماء إناث، أو هي نساء، أو هي ملائكة؟
والحق يقول: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا} والأسلوب هنا أسلوب قطع. أي ما يدعون إلا إناثًا، تمامًا مثلما نقول «ما أكرم إلا زيدًا» وهذا نفي الإكرام لغير زيد، وإثبات للإكرام لزيد. فساعة يقول الحق: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا} فغير الإناث لا يدعونهم، ولذلك يعطف عليها الحق: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا}.
واستخدم الحق في صدر الآية أسلوب القصر، وأسلوب القصر معناه أن يقصر الفعل على المقصور عليه لا يتعداه إلى غيره؛ فهم يعبدون الإناث، هذا اقصر أول، ثم قصر ثانٍ هو قوله الحق: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا}.
وكان خدم الأصنام يدعون أن في جوف كل صنم شيئًا يتكلم إليهم؛ لذلك كان لابد أن يكون في جوف كل صنم شيطان يكلمهم.. وكان ذلك لونًا من الخداع، فالشياطين ليست جنًّا فقط ولكن من الإنس أيضًا.
فهناك سدنة وخدم يقومون على خدمة الآلهة ويريدون أن يجعلوا للآلهة سلطانًا ونفوذًا حتى يأتي الخير للآلهة كالقرابين والنذور ويسعد السدنة بذلك؛ لذلك كانوا يستأجرون واحدًا له صوت أجش يتكلم من وراء الصنم ويقول: اذبحوا لي كذا. أو هاتوا لي كذا. تمامًا كما يحدث من الدجالين حتى يثبتوا لأنفسهم سلطانًا.
وهكذا كان الذي يتكلم في جوف هذه الأصنام إما شيطان من الجن، وإمّا شيطان من الإنس. والشيطان من «الشطن» وهو «البعد».
ووصف الشيطان بأنه مريد يتطلب منا أن نعرف أن هناك كلمة «مارد» وكلمة «مريد». وكل الأمور التي تغيب عن الحس مأخوذة من الأمور الحسية. وعندما نمسك مادة «الميم والراء والدال» نجد كلمات مثل «أمرد» و«امرأة مرداء» و«شجرة مرداء»، و«صرح ممرد».
إن المادة كلها تدور حول الملمس الأملس. فأمرد تعني أملس؛ أي أن منابت الشعر فيه ناعمة. وصرح ممرد كصرح بلقيس أي صرح مصقول صقلًا ناعما لدرجة أنها اشتبهت في أنه ماء، ولذلك كشفت عن ساقيها خوفًا أن يبتل ثوبها. والشجرة المرداء هي التي لا يمكن الصعود عليها من فرط نعومة ساقها تمامًا كالنخلة فإنه لا تبقى عليها الفروع، ولذلك يدقون في ساق هذه النخلة بعض المسامير الكبيرة حتى يصعدوا عليها.
والشيطان المريد هو المتمرد الذي لا تستطيع الإمساك به. إذن. فـ «مارد» و«مريد» و«ممرد» و«مرداء» و«أمرد»، كلها من نعومة الملمس.